ثقافة من تاج الذهب إلى تاج الوهم والسراب: الفخراني يُحيي الملك لير في أيام قرطاج المسرحية... فلا الشغف يشيخ ولا العظمة تذبل
اختارت إدارة أيام قرطاج المسرحية في دورتها السادسة والعشرين أن تفتتح فعالياتها بمسرحية «الملك لير» لوليم شكسبير، بطولة النجم المصري يحيى الفخراني، وهو اختيار أثار امتعاض بعض التونسيين، لأن الافتتاح لم يكن بعرض تونسي كما جرت العادة منذ انطلاق الأيام.
ولئن برّرت الهيئة المديرة قرارها ببرمجة عرضين افتتاحيين، واحد تونسي وآخر مصري، فإن هذا التبرير لم يقنع الجميع، حيث اعتبر البعض أن العرض المصري طغى حضورا وأهمية على العرض التونسي، وهو ما يفتح نقاشا مشروعا حول هوية المهرجان وأولوياته: هل هو منصة عربية مفتوحة أم مناسبة وطنية تونسية؟
لكن، وبصرف النظر عن الجدل الإداري، فإن «الملك لير» الذي قدّمه يحيى الفخراني كان اختيارا فنيا مبرّرا بقوة، ذلك أن الشخصية الشكسبيرية تبقى واحدة من أعمق وأعقد الشخصيات في تاريخ المسرح العالمي.
يحيى الفخراني… لير في الثمانين، فلا الشغف يشيخ، ولا العظمة تذبل مع الأيام... بل تكبر
في تجسيده الثالث لدور «الملك لير» وهو في عامه الثمانين فعليا، قدّم يحيى الفخراني واحدا من أجمل أدواره وأكثرها صدقا، فللمرة الأولى يتطابق عمر الممثل مع عمر الشخصية، وهذا التطابق أضفى مصداقية نادرة على كل حركة وكل صرخة وكل همسة.
وقف أمامنا رجل تجاوز الثمانين بسنوات، لكن الزمن – برحمة استثنائية – مرّ به كنسيم لطيف، حيث لا تزال عيناه تحتفظان بوميض طفولي، وذاكرته محفوظة بحرفية مدهشة، وصوته لا يزال يهزّ جدران المسرح بقوة ساحرة.
كان حضوره ملكيا بالمعنى الحرفي والرمزي معا، جنون مدروس، ألم حقيقي، كبرياء يتحطم أمام أعيننا. حفظ يذهل العقل، وصوت يرتجف له الركح، وروح تملأ الفراغ حتى تخيّل لنا أن شكسبير كتب لير ليؤديه الفخراني يوما، وأن الفخراني وُلد ليحيي هذا الدور تحديدا، لقد كان درسا حيّا في أن الشغف لا يشيخ، وأن العظمة تكبر مع الأيام بدل أن تذبل.
سينوغرافيا متقنة… وتعريب محكم
إلى جانب الأداء الاستثنائي للفخراني ومعظم الممثلين، برز العمل بتعريب ذكي للنص الشكسبيري، حيث حافظ على الوزن الشعري قدر الإمكان وأضاف لمسات معاصرة دون المساس بروحه الكلاسيكية.
أما السينوغرافيا فكانت من أجمل ما قدمته المسرحية، ديكورات متنقلة تتحول في ثوان من قصور فخمة إلى غابات كثيفة وصحارى قاحلة وجبال وعرة، بتفاصيل دقيقة وإتقان هندسي ينمّ عن تركيز شديد.
كما رافقت الإضاءة الحالة النفسية للشخصيات بدقة متناهية، ولعل من أهم المشاهد التي برع فيها مهندس الإضاءة حين يتم اقتلاع عيني "غلوستر"، حيث تنطفئ الأضواء على الجمهور، لنصبح نحن أيضا عميانا فنتماهى مع الشخصية ونُشاركها ذهاب بصيرتها ووجعها.
أما الأزياء فجمعت بين الطابع الملكي الإنجليزي القديم ولمسات شرقية أضفت دفئا خاصا، كما عبّرت في كثير من المشاهد عن نفسية الشخصيات وتقلباتها، فالملك لير كان يضع بداية المسرحية تاجا ملكيا، أما في نهاية العرض فكان يضع على رأسه تاجا من الأعشاب البرية، وهي اللحظة التي تحولت فيها السلطة إلى وهم، وصار العقل جنونا، وبات الملك متشردا.
في حين مزجت الموسيقى التصويرية بمهارة بين الآلات العربية التقليدية والإيقاعات الإلكترونية، فأنتجت جوّا مسرحيا حديثا ومؤثرا.
ومن أكثر المشاهد المؤثرة التي تميزت فيها السينوغرافيا، مشهد العاصفة التي تزامنت مع خروج الملك من مملكته، وكأنها مرآة للعاصفة الداخلية التي عصفت بلير. تقنيا تُرجمت العاصفة بمشهد سينوغرافي في غاية الإتقان، حيث تطايرت الأوراق واهتزت الأشجار، واحتد البرق مع دوّي الرعد وأصوات الحيوانات البرية، مشهد عبّر عن قوة الطبيعة التي لا تعبأ بالتيجان الملكية وتدفع الإنسان للتخلي عن كبريائه وعظمته.
رحلة لير النفسية: من الكبرياء إلى الرماد
يبدأ لير بتقسيم مملكته بين بناته الثلاث بناء على مقدار حبهنّ المعلن، تكذب جونريل وريجان وتتسابقان في النفاق، بينما ترفض كورديليا – الأقرب إلى قلبه – الكذب، فتكتفي بقول الحقيقة البسيطة: «أحبك كما يليق ببنت لأبيها، لا أكثر ولا أقل» فيغضب لير و يطردها، ويوزّع المملكة على الكاذبتين.
ثم تبدأ المأساة الحقيقية، تخلع الابنتان عنه السلطة، تهينانه وتطردانه، ليهيم العجوز المخلوع في العراء ويفقد عقله تدريجيا، يبكي على كورديليا ويعترف بخطئه، ويصرخ بأيقونية الجملة الشهيرة: «أنا لست إلها… أنا بشر».
تنكشف مؤامرات جونريل وريجان، فتموتان شر ميتة، وتعود كورديليا لتنقذ أباها، يتصالحان، لكن القدر يقسو، حيث تُشنق كورديليا في آخر لحظة، فيحملها لير بين ذراعيه المتهالكتين، ثم يموت حزنا فوق جثمانها، بعد أن اكتشف متأخرا أن أعظم مملكة هي مملكة الحب الصادق لا مملكة الأراضي والتيجان.
"الملك لير" الذي قدّمه يحيى الفخراني في أيام قرطاج المسرحية كان عرضا استثنائيا بكل المقاييس، أداء في غاية التميّز من نجم في خريف عمره لكنه في ربيع موهبته، سينوغرافيا مبهرة، تعريب محترم، وفريق عمل منسجم إلى حد كبير.
ولئن كان هناك بعض الهنات الطفيفة في أداء أدوار ثانوية، وبعض التحفّظ المشروع على اختيار عرض غير تونسي للافتتاح، فإنّ كل ذلك يذوب أمام عظمة النص الشكسبيري وعظمة من أحياه على خشبة المسرح
لير… ملك قاس الحب بالكلام، فأعطى التاج للكذب وطرد الحقيقة الصامتة، ثم هبت ريح عارية عارمة حطّمت التاج، وحطّمت معه الكبرياء، وتركتنا نحن المشاهدين نخرج من القاعة أقل كبرياء… وأكثر إنسانية.
الإنسان حين يقيس الحب بالكلام، والسلطة بالتيجان، والحقيقة بالمظهر، فإنه يبني عرشه على الرمال.
ختاما، لم ينته الإحتفاء بالعرض عند التصفيق الحار الذي استمر لدقائق بعد الستارة الأخيرة، حيث كرمت الهيئة المديرة لأيام قرطاج المسرحية النجم المصري يحيى الفخراني بجائزة خاصة تقديرا لمسيرته الطويلة واسمه الذي سيظل محفورا في تاريخ المسرح العربي والإفريقي.
سناء الماجري